إنها حلوة خضرة
➀ التمهيد :
- الخطابة لغة مشتقة من "الخطب" وهو الأمر الجليل. ولها في الثقافة العربية تعريفات مختلفة، منها الخطابة: وهي الفن في مُخاطبة النّاس وإقناعهم عن طريق الكلام المُختَصر والبليغ الذي يحمل وقعاً في النّفس عند سماعه، وهي أقدم فنون النّثر في الأدب العربيّ، ولها ثلاثة أجزاء تتكوّن منها الخطبة، هي المُقدّمة، والموضوع، والخاتمة. وتتميّز الخطابة بقصر الجمل، وقلّة التّصوير البيانيّ، وسهولة ووضوح الأفكار، وجمال الكلمات والتّعبير
- صاحب النص : هو علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين. من أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء. ولد بمكة وتربى في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقه. ولي الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان، وقامت في عهده حروب كثيرة وفتن داخلية حول الخلافة ومن بينها معركة الجمل، وصفين. وقد قتله غيلة عبد الرحمان بن ملجم المرادي يوم السابع عشر من رمضان سنة 40 ه .
➁ ملاحظة النص و صياغة الفرضية:
- العنوان: جاء العنوان شبه جملة، تركيبيا. اما دلاليا، فيوحي على الدنيا. وقد وصف الإمام علي الدنيا بصفتين: الأولى من جهة الطعم "حلوة"، وهي أشياء تستهويها النفس، والثانية من جهة النظر "خضرة"، وهي أيضا أشياء تهواها النفس وتحبها من جهة اللون.
- الفرضية:اتكاء على عنوان النص، وبدايته، ونهايته، ومصدره، نفترض أن يكون النص نصا حجاجيا يندرج ضمن أدب الخطابة. وربما سيحذر فيها الإمام علي كرم الله وجهه المتلقي من الدنيا باعتبارها محفوفة بالشهوات والمخاطر.
➂ فهم النص :
✔ القاموس المساعد:
- حفت: أحيطت.
- حبرتها: سرورها.
- هشيما: كلّ ما جفّ ويَبسَ من النَّبات والشَّجَر.
- يوبقه: يهلكه.
- أبّهة: عظمة ونخوة.
- أسبابها: مفردها سبب وهو الحبل أو الدرجة أو الطريق أو الدرجة.
- رمام: عظام بالية.
- عفّر: مرّغ في التراب.
- منسم: طرف خف البعير.
✔ الوحدات الدلالية للنص:
- الوحدة الأولى: تحذير الناس من الدنيا وشهواتها وفنائها فهي مثل النبات يتحول من الخضرة إلى يابس تلقي به الرياح في كل جانب.
- الوحدة الثانية: وصف الدنيا بالغرارة لأنها تأتي بخلاف ما يعتقد الإنسان وتتقلب عليه فمن وثق بها فجعته ومن تفاخر حقرته وذلته.
- الوحدة الثالثة: وعظ الناس من خلال تحقير الدنيا وإعطاء المثال بالأمم السابقة
➃ تحليل النص:
➀ أجزاء الخطابة:
- إن الخطابة تقوم على بناء منهجي محكم يتضمن: الاستهلال، العرض، الخاتمة.
- نلاحظ أن المقدمة والخاتمة محذوفتان وذلك لأن غرض الخطبة سياسي لدرء الفتنة. أما العرض فيتضمن التحذير من الافتتان بالدنيا وأن السبب هو الابتعاد عن الدين.
➁ المعجم:
الألفاظ والعبارات الدالة على الدنيا | الألفاظ والعبارات الدالة على الآخرة |
---|
الدنيا، حلوة خضرة، الشهوات العاجلة، غرارة، ضرارة، حائلة، زائلة، بائدة، أكالة، غوالة، ظهر الأرض، الأهل النور. | موت، ظعنوا، المنون، قبورهم، الأجداث، أكفان، الرفات، بطنا، ضيقا، ظلمة، الدار الباقية. |
- نلاحظ أن الخطيب يقارن بين الدنيا والآخرة ليحرك عاطفة المستمعين ويشحنها بكراهية الدنيا وخداعها الزائف والعودة إلى الهدى للقضاء على الفتن.
➂ الحجاج
✔ يهيمن الطابع الحجاجي على الخطابة، حيث إن الخطيب يدافع عن نظرته إلى الدنيا الزائلة باعتماد مجموعة من الأدلة والبراهين لتأكيد افتتان الناس بدنيا زائلة وقد استدل بالقرآن الكريم والاعتبار من السابقين أي التاريخ مثلا:
- ﴿كماء أنزلناه من السماء..........﴾
- ﴿كما بدأنا أول خلق نعيده ..﴾
- من كان قبلكم اطول أعمارا...وأعد عديدا.
- اتعظوا فيها بالذين قالوا "من أشد منا قوة"
✔ من خلال هذه الادلة يتضح مدى الاعتماد على الاستشهاد بالقرآن الكريم في الخطابة نظرا لقوة تأثيره في المستمع وكذلك حال الأمم السابقة التي قد فنت ولم تخلد رغم عتوها وعظمتها.
➃ الصيغ الصرفية المستعملة في الوصف:
أسماء الفاعل | أسماء المفعول | صيغ المبالغة |
---|
العاجلة، حائلة، زائلة، نافذة، بائدة، فانية | مسلوب، مغلوب، منكوب، محروب | غرارة، ضرارة، أكلة، غوالة. |
- اسم الفاعل يدل على التجدد والحدوث ويشبه الفعل في الدلالة على الحركية وهو ما يناسب الدنيا المتقلبة والغير مستقرة
- اسم المفعول يدل على الإنسان الذي وقع عليه الحدث.
- صيغة المبالغة فهي للتهويل والشدة والتعظيم من أمر الدنيا وتغنينا عن التكرار.
➄ الأساليب:
إن الخطابة تتضمن أساليب فنية تتميز بالإبداع والبلاغة، لخدمة وتدعيم الجانب الحجاجي. ولعل الأسلوب المهيمن على هذه الخطابة هو الخبر، لتقرير التحذير من الدنيا وضرورة الاعتصام بالدين للفرار منها إلى الآخرة، إلى جانب الأساليب الإنشائية التي تمثلت في الصيغ الآتية:
- الاستفهام: ألستم، فهل بلغكم، أفهذه تؤثرون،أم عليها تحرصون، من أشد منا قوة.
- الأمر: فاعلموا، اتعظوا.
- الذم: بئست.
➅ الصور الفنية:
للخطبة جمالية في التصوير تجلت في الصور البلاغية ونذكر منها:
- الاستعارة: الدنيا حلوة خضرة، حليت بالآمال، تزينت بالغرور.
- التشبيه: فجاؤوها كما فارقوها، في الآية الكريمة تشبيه تمثيلي، كما قال سبحانه، كما بدأنا أول خلق.
➆ المحسنات البديعية:
حضرت المحسنات البديعية في الخطابة من خلال الأمثلة التالية:
- الجناس: (غرارة ضرارة)، (حائلة زائلة)، (سمام رمام)، (مسلوب مغلوب)
- الطباق: (أقلّ استكثر)، (نخوة ذل)، (عذب أجاج)، (حلوها صبر حياة موت)
- السجع: (لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها)، (فجعته، صرعته)، (سمام، رمام).
للمحسنات البديعية والصور البلاغية دور هام في إعطاء الخطابة موسيقى وجمالية، تمنحها قوة إقناعية وتأثيرية على الجمهور.
➄ التركيب :
بناء على ما تقدم، إن النص الذي درسناه، ملاحظة وفهما وتحليلا، يندرج ضمن نمط النصوص الحجاجية عامة، وأدب الخطابة خاصة. وكل مستويات النص تبوح بذلك. إن على مستوى البناء، نجد أن الخطيب التزم بمقومات فن الخطبة (الاستهلال، الموضوع، الخاتمة). أو على مستوى المضمون، حيث إن الخطيب سعى إلى تحذير الجمهور المخاطب من ملذات الدنيا وشهواتها الزائلة، وحثهم على ضرورة الإقبال على الآخرة باعتبارها دار بقاء. ولأجل تلك الغاية، تسلح بكوكبة من الحجج قصد إقناعهم. هذا بالإضافة إلى توظيفه لمجموعة من المحسنات البديعية والأساليب اللغوية. وهذا ما يبرز مدي تمكن الإمام علي من قواعد اللغة العربية، وهذا مطلب أساسي لكتاب فن الخطابة وتعكس الخطبة، التي درسناها، مجموعة من العبر والمواعظ والقيم الدينية، والمتمثلة في: الحث على التشبث بتعاليم الدين الإسلامي، والابتعاد عن ملذات وشهوات الدنيا، باعتبارها دار فناء وغرور. الارتباط بالدار الآخرة باعتبارها دار البقاء.