المختار شعالي
يشكل نظام التربية والتكوين قاطرة التنمية المستدامة، وقاطرة التغيير التي تقودنا نحو بناء المجتمع الذي نريد والإنسان الذي نريد والقيم التي نريد أن نمشي على خطاها جميعا. غير أن هذه القاطرة في بلدنا يبدو أنها تعرف كثيرا من الاختلالات والأعطاب. مما جعل الملك ينبه بذلك في خطاب 20غشت 2013 بقوله أن النظام التعليمي ‹‹أصبح في الوضع الحالي أكثر سوءا مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أزيد من عشرين سنة››.
ولمواجهة هذه الاختلالات قدم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي رؤيته لإصلاح نظام التربية والتكوين في الفترة الممتدة بين 2015 و2030 ، تحت شعار”من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء الفردي والمجتمعي”. وتتمثل هذه الرؤية في ‹‹بلورة عدة رافعات استراتيجية للتجديد، تتمثل في رهاناتها الكبرى في ترسيخ مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص، ومدرسة الجودة للجميع، ومدرسة الارتقاء الفردي والاجتماعي››. نتطرق في هذا المقال إلى مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص. وسنتطرق إلى “مدرسة الجودة للجميع”، ثم إلى “مدرسة الارتقاء الفردي والاجتماعي” لاحقا.
مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص
تشكل إشكالية الإنصاف أكبر تحدي تواجهه السياسة التربوية: من يستفيد من المدرسة؟ هل المدرسة أداة للمساواة؟ هل المدرسة قائمة على الإنصاف؟ هل تقدم خدماتها بتساوي على كل بنات وأبناء المغاربة؟ تلك بعض الأسئلة التي تحتاج إلى الإجابة عند الحديث عن مدرسة الإنصاف.
إن الإنصاف معناه أن تستفيد كل الفئات الاجتماعية بنفس القدر من الإنفاق العمومي المخصص للتربية، بغرض منح نفس الفرص للترقي الذاتي والمجتمعي لكل بنات وأبناء الوطن، حيث يصبح هذا الترقي مبنيا فقط على الاستحقاق والكفاءات الذاتية، دون تأثير عوامل الانتماء السوسيو- اقتصادي والثقافي والمجالي للأطفال.
إن التأكد من تكافؤ الفرص في الاستفادة من التربية والتكوين يقتضي القيام بدراسات تجيب بموضوعية عن أسئلة تتعلق بالإنصاف، أي دراسات تحدد لنا من يستفيد من المدرسة وتحدد لنا مدى أثار الانتماء السوسيو- اقتصادي والثقافي والجغرافي على أداء التلاميذ. غير أن البحث التربوي الموكول له مهمة الكشف عن هذه العلاقات التربوية يحتاج إلى معطيات دقيقة عن هذه العوامل. إلا أنه في واقع الحال لا نجد في المدرسة أو في المصالح النيابية والأكاديمية أي معطيات عن الانتماء السوسيو- اقتصادي والثقافي للتلاميذ التي تفسر هذه النتائج الدراسية. فلا تجد في النيابات سوى معطيات عن متغيرات محدودة كإحصاء التلاميذ موزعة حسب الجنس والوسط الجغرافي. أما الأكاديميات، الموكول لها مهمة البحث التربوي، فلا تجد في حواسبها سوى نتائج التلاميذ معزولة عن متغيرات عديدة مرتبطة بها في الواقع ويمكن أن تفسرها.
غير أن تأثير الانتماء السوسيو- اقتصادي والثقافي للتلميذ على أدائه الدراسي هو معطى أكدته كل الدراسات والبحوث التربوية في العالم، بل أضحى عاملا كلاسيكيا معروفا يؤكد أن التفاوتات من الاستفادة من المدرسة قائمة، وهي لصالح الطبقات المحظوظة على حساب الطبقات المقهورة. يقول جاك حلاق: ‹‹اللامساواة قائمة قبل المدرسة، وفي غضون المدرسة، وبعد المدرسة››(2). وقد كشفت démystifier كثير من الدراسات (بورديو، جاك حلاق، ريمر…) الأوهام والخداع الذي يختفي خلف الخطاب والإيديولوجية التي تدعي أن المدرسة قادرة على مواجهة التفاوتات الاجتماعية. بل على العكس من ذلك أكدت هذه الدراسات أن المدرسة ترسي هذه التفاوتات وتبررها وتشرعنها..
إن بلدنا ليس استثناءا لهذه القاعدة، ذلك أن التفاوت من الاستفادة من هذه الخدمة العمومية (التربية) بناء على الانتماء السوسيو اقتصادي والثقافي والجغرافي ظاهر للعيان، ذلك أن عدم الالتحاق بالمدرسة والانقطاع المبكر عن الدراسة والهدر المدرسي بكل أشكاله، هو يطال أبناء البادية وأبناء الطبقة غير المحظوظة وخصوصا الفتيات منهم، أكثر ما يطال أبناء الطبقات المحظوظة. كما أن التفاوت في الاستفادة من جودة التعليم هو أيضا قائم بثقل أكثر، ويميل لصالح الوسط الحضري على حساب الوسط القروي، ولفائدة المؤسسات المتواجدة بمركز المدينة على حساب المؤسسات المتواجدة بالأحياء الشعبية. ويبدو أن الفئات المحظوظة تنال حصة الأسد داخل كل مؤسسة على حساب الفئات المستضعفة.
يمكن الإشارة أيضا إلى أن التعريب الذي انحصر في التعليم الابتدائي والثانوي والبقاء على التدريس في الجامعة باللغة الفرنسية هو هدية مجانية لأبناء الطبقة المحظوظة و”المفرنسة”، وإقصاء علني للطبقات الفقيرة وأبناء الوسط القروي. ذلك أن القلة من أبناء هذه الطبقات الأخيرة التي ساعدها الحظ للوصول إلى الجامعة، صوف تجد صعوبة كبيرة في مسايرة التعليم الجامعي باللغة الفرنسية. ويؤكد هذا الأمر غياب تكافؤ الفرص في الترقي المعرفي أمام كل أبناء الوطن كما يحث على ذلك الميثاق الوطني والدستور.
لمعالجة هذه التفاوتات القائمة في الاستفادة من التربية وإرساء مدرسة الإنصاف يوصي المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ‹‹بتخويل التمدرس بالأوساط القروية وشبه الحضرية والمناطق ذات الخصاص تمييزا إيجابيا، لاستدراك جوانب النقص والتعثر››. وفي إطار ضمان تكافؤ الفرص أوصى المجلس ‹‹بضمان مقعد لكل طفل في سن التمدرس، ولا سيما في التعليم الإلزامي بالنسبة للفئة العمرية من4 إلى 15 سنة››، و‹‹وضمان المواظبة واستدامة التعلم، والتصدي لكل أنواع الهدر والانقطاع والتكرار››. أي ضمان البقاء في المدرسة أطول وقت ممكن والاستفادة من جودة في التعليم انطلاقا من شعار الإصلاح الذي يدعو إلى الجودة للجميع. غير أن السؤال الجوهري المطروح على مدرسة الإنصاف: هل ستتمكن هذه السياسة التربوية، عبر هذه الإجراءات، من رفع الحيف الناتج عن ثقل الانتماء الطبقي والجغرافي والجنسي؟
في واقع الحال فإن السلطات التربوية تقوم دائما بإجراءات “تمييزية”، إن صح القول، لصالح الفئات غير المحظوظة، ذلك أنها تفرض نسبة الانتقال داخل الأسلاك الدراسية تفوق 90%، وتفرض نسبة الانتقال من سلك الابتدائي إلى الثانوي الإعدادي في حدود 80%. وكل هذه النسب تكون موحدة على المستوى الوطني سواء في الأوساط الحضرية أو القروية رغم ضعف مستوى التلاميذ بالأوساط القروية والمهمشة. كما تضطر هذه السلطات، عند الانتقال إلى الثانوي التأهيلي، إلى خفض عتبة النجاح في المؤسسات المتواجدة بالهامش. غير أن هذا التمييز هو في الواقع ملغوم، كونه ليس سوى تأجيل عملية الإقصاء الحتمية إلى المحطات القادمة، نظرا لما سيترتب عن هذا النجاح غير المستحق من تراكم التعثر والقصور لديهم… والأخطر من هذا أن الرفع من نسبة النجاح في صفوف الوسط القروي والأوساط الهامشية يتم أحيانا كثيرة عبر السماح بالغش…وقد يتبادر للذهن أن الهدف من هذا “التمييز” هو محاولة لإخفاء التفاوتات العميقة القائمة في الاستفادة من المدرسة.
إن التفاوت في الاستفادة من المدرسة، ومن تم التفاوتات الاجتماعية، يتم تبريرها غالبا بمبدأ الاستحقاق، باعتباره أداة للإنصاف. ويرى هذا الاعتقاد أن التفاوتات القائمة تترتب عن عدم التساوي في المواهب وفي الملكات، وهو أمر الطبيعة، والعدل، حسب هذا الاعتقاد، هو أن لا ننكر هذا المعطى الموضوعي ونلغيه… غير أن في واقع الحال فإن الاستحقاق ليس سوى مجرد خداع ووهم تروج له السياسة الليبرالية الرأسمالية لإضفاء صفة العدالة على اختياراتها. فكما يقول Everet Reimer ‹‹الاستحقاق ستار من دخان يحجب استمرارية الامتيازات››(1). ذلك أن التفاوتات القائمة في المدرسة لها علاقة بالتفوتات الاجتماعية، أي لها علاقة بعوامل خارجة عن المدرسة. ويعتبر التقليص من هذه التفاوتات في الحياة الاجتماعية صلب العمل السياسي.
إن الدولة التي تحتكر العرض المتعلق بالتربية هي بشكل عام في وضعية تبعية لميزان القوى، ذلك أن القوى المهيمنة هي التي تفرض امتيازاتها… وبما أن الاختيارات الليبرالية والرأسمالية أضحت خيار اليميني واليساري على السواء، فإن المدرسة ستظل تواصل القيام بوظيفة إعادة إنتاج التفاوت الموجود في المجتمع الليبرالي…ذلك أن هذا المجتمع يحتاج إلى قاعدة واسعة من اليد العاملة المؤهلة وغير المؤهلة ونخبة محصورة من”الأنتلجانسيا”…أما النخبة المالكة للثروة فإنها ستظل كذلك بعامل الوراثة…هذه هي الحقيقة التي يجب مجابهتها.
*المقولات المحصورة بين مزدوجتين هي مقتطفة من تقرير ملخص عن ‹‹رؤية استراتيجية للإصلاح 2015-2030›› التي جاء بها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي .