أخر الاخبار

القراءة التحليلية: لرواية اللص و الكلاب

 


p>

أ- المنظور الأول: تتبع الحدث

* المتن الحكائي للرواية: تحكي رواية اللص والكلاب حكاية مثقف بسيط يدعى سعيد مهران، دخل السجن وخرج منه في عيد الثورة، بعد أن قضى فيه أربع سنوات غدرا، دون أن يجد أحدا في انتظاره، ويقرر بعدها الذهاب إلى منزل عليش لاسترجاع ابنته سناء وماله وكتبه، ويفشل في ذلك وتسود الدنيا في وجهه أكثر عندما جفلت منه ابنته سناء ورفضت معانقته لأنها لا تعرفه ، وللتخفيف من حدة الانفعال وإحياء لبعض ذكريات ماضيه قرر الاستقرار مؤقتا برباط علي الجنيدي، الذي قضى عنده ليلته، ولكن روحانية المكان وطقوسه الخاصة وأجوبة علي الجنيدي العامة والمغرقة في الروحانيات، جعلت سعيدا لا يرتاح كثيرا للإقامة بهذا المكان المليء بالمنشدين والمريدين، لذلك قرر اللقاء بأستاذه رؤوف علوان ذلك الصحفي الناجح الذي صار من الأغنياء قصد تشغيله معه في جريدة الزهرة، فاتجه بداية إلى مقر جريدة الزهرة، ثم بعد ذلك نحو فيلته، وهناك سيفاجأ سعيد مهران بفكر جديد لرؤوف علوان يقدس المال ولا يكترث للمبادئ والقيم النضالية ، كما سيفاجأ برغبته في إنهاء علاقته به خاصة عندما رفض طلب تشغيله وأعطاه مبلغا من المال ليدير شؤون حياته بمفرده بعيدا عنه، مما اضطر سعيد مهران إلى التفكير في الانتقام منه، فقرر العودة إلى فيلته في تلك الليلة لسرقتها لكنه وجد رؤوف علوان في انتظاره لأنه عليم بأفكار تلميذه، فهدده بالسجن واستعاد منه النقود وطرده من البيت، وخرج سعيد ليلتها مهزوما ومشاعر الحقد والانتقام تغلي في دواخله، فلقد اكتمل عقد الخيانة وباكتماله تبدأ رحلة الانتقام، وتسود الدنيا في وجهه ولا يجد ملاذا أفضل من مقهى المعلم طرزان، الذي لم يتردد لحظة في إهدائه مسدسا سيكون له دور كبير في مسلسل الانتقام، وفي ذات المكان سيلتقي بنور التي بدورها ولدافع حبها الشديد له مذ كان حارسا لعمارة الطلبة، ستوفر له المأوى والطعام والشراب والجرائد والسيارة، ولما توفرت له شروط الانتقام' المسدس والسيارة' ذهب مباشرة لقتل عليش في منزله لكنه أطلق النار على حسين شعبان الرجل البريء الذي اكترى شقة عليش بعد رحيله، لكن سعيد مهران لم ينتبه لذلك ولم يعرف خطأه حتى اطلع على الجرائد، وفي خضم هذه الأحداث استغلت جريدة الزهرة الأوضاع وبدأت بقلم رؤوف علوان تبالغ في وصف جرائم سعيد مهران وتنعته بالمجرم الخطير الذي يقتل بدون وعي، الشيء الذي سيشعل نار الغضب في قلب سعيد الذي سيقرر قتل رؤوف خاصة بعدما ساعدته نور في الحصول على بذلة عسكرية، فيستهل انتقامه بالقبض على المعلم بياظة بهدف معرفة الاقامة الجديدة لعليش ونبوية لكن دون جدوى فعاد إلى بيت نور ثم ارتدى بذلته العسكرية، واستقل سيارة أجرة ثم اكترى قاربا صغيرا ليتجه صوب قصر رؤوف علوان للانتقام منه، وفور نزوله من سيارته أطلق سعيد مهران عليه النار لكن رصاصات الحراس السريعة والكثيرة وإصابته بإحداها جعلته يخطئ هدفه، فأصاب بوابا بريئا بدل غريمه، وأثناء اطلاعه على الجرائد التي أمدته بها نور تعرف على خطئه فشعر بندم شديد، واسودت الدنيا في وجهه مع استمرار جريدة الزهرة في تحريض الرأي العام ضده ، إلى أن انتهت حياته في مقبرة بعد أن حاصرته الشرطة وأطلقت عليه الرصاص من كل جانب فاستسلم بلا مبالاة، وحلت بالعالم حال من الغرابة والدهشة.

* الحبكة: الحبكة هي النسيج الذي يرصد الأحداث في اتصالها وانفصالها واتجاهاتها، وتنقسم إلى تقليدية تتوالى فيها الأحداث بشكل متسلسل، وأخرى مفككة لا تخضع لتسلسل منطقي، ويبدو أن الحبكة المعتمدة في رواية اللص والكلاب، تقليدية بدليل قيامها على الأسباب المؤدية إلى النتائج، فكل حدث فيها يؤدي إلى حدث آخر وهكذا تقوم الأحداث على مجموعة من الأسباب ، فالخيانة التي تعرض لها سعيد دفعته للانتقام و اكتراء حسين شعبان لمنزل عليش جعلت الرصاصة تصيبه، ووشاية عليش ونبوية جعلت سعيدا يدخل السجن....

* الرهان: ينقسم الرهان دائما إلى رهان المحتويات ويتأسس حول الشخصيات والموضوعات المتنازع عليها، ورهان الخطاب ويتأسس على علاقة المؤلف مع المتلقي أو علاقة النص مع المتلقي، وإذا عدنا إلى مثن اللص والكلاب وجدنا أن رهان المحتوى الذي له علاقة بالشخصيات يتراوح بين الفشل والنجاح، فسعيد مهران يفشل في تحقيق رهانه الكلي المتمثل في تحقيق مشروعه النضالي وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويتراجع عن هذا الرهان إلى رهان آخر جزئي وهو الانتقام من خصومه دون أن يحققه، بخلاف غريمه رؤوف علوان الذي استطاع تحقيق رهانه المتجسد في الحصول على الثروة وإن كانت الطريقة وصولية انتهازية. أما رهان الخطاب أو النص ككل فيمكن حصره في كون المحاولات الفردية لتغير الواقع مآلها الفشل، فلا يمكن لفرد مهما أوتي من ذكاء وعزيمة وإصرار أن يغير واقع أمة مهما كان الواقع مأساويا وظالما، فالتضحيات يجب أن تكون جماعية لكي ينتصر الخير على الشر، والحق على الباطل، والعدل على الظلم.

* دلالات وأبعاد الحدث: إن كل الإشارات التاريخية التي وردت داخل مؤلف اللص والكلاب، تشير إلى أن الرواية لها علاقة بواقع مصر السياسي والاجتماعي لما بعد الثورة المصرية سنة1952م ، ومن هذا المنطلق أمكن لنا أن نقول ومن خلال الأحداث التي وقعت لسعيد مهران والذي وجد نفسه فجأة يعاني من تفكك أسري وحزبي، أن رواية اللص والكلاب رواية تستهدف بأبعادها كشف واقع مصري يعاني معاناة اجتماعية ونفسية نتيجة السلوك الانتهازي لبعض الأفراد الذين غيروا قناعاتهم النضالية ومواقفهم استجابة لمتغيرات نهاية مرحلة الخمسينيات والستينيات ونتيجة لإرضاء مآربهم الشخصية، ودمروا بمواقفهم المتغيرة أسرا كثيرة وحكموا على الشعب بشكل عام بالفقر والجوع والقلق الوجودي والروحي.

*البناء الفني:
بني نجيب محفوظ روايته بناء محكما معتمدا في ذلك على الوضعية الأولية ثم سيرورة التحول و تطوراته و انتهاء بوضعية نهائية تجسد الرهان الذي سطره المؤلف و الذي يكمن في كون الحل الفردي لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مرضية، أضف إلى ذلك أن الرصاصات العمياء التي تعبر عن الرفض و الإدانة ينقضها التنظيم و الوعي. هذا و قد اعتمد المؤلف في نقل تفاصيل رواية «اللص و الكلاب» على الرؤية من الخلف من خلال النفاذ إلى بواطن الشخصيات و الكشف عن أحاسيسها و تطلعاتها.

- الزمن السردي: وقد جاء الزمن في الرواية زمنا تصاعديا يبتدئ بالخروج من السجن إلى المطاردة و الاستسلام غير أن هذا الزمـــن يجنح ثارة إلى الماضــي لاسترجاعه أو للمستقبل من أجل استشرافه.
- الأسلوب: وظف نجيب محفوظ في روايته عدة أساليب سردية لنقل الأحداث و التعبير عن مواقف الشخصيات من ذلك:
السرد المباشر: وقد تم توظيفه للاقتراب من الواقع قصد محاكاته و تسجيله و تشخيصه.
السرد غير المباشر: الذي يمتزج فيه كلام السارد مع كلام الشخصية و هو كثير بين ثنايا الرواية.
الحوار: نميز فيه بين نوعيـن؛ حوار داخلي و حوار خارجي غير أن النوع المهيمن في الروايــة هو الحوار الداخـــــلي الذي يكشــــف

*اللغة:
تميزت رواية «اللص و الكلاب» بلغة واضحة و معبرة تتداخل فيها الفصحى و العامية و ذلك لإضفاء طابع الواقعية على الرواية، وقد تخللت الرواية بعض التعابير الإيحائية و الرمزية و البلاغية كما تتعدد روافد اللغة الموظفة بتعدد الشخصيات فهناك لغة سعيد مهران فهي لغة قاسية و عنيفة نابعة من توتره و ماضيه كلص محترف، و نجد جزءا من هذه عند عليش و رجاله و طرزان. ثم اللغة الصوفية و يمثلها الشيخ علي الجنيدي و هي ذات مسحة دينية يغلب عليها الإيحاء. ثم اللغة القانونية و يمتلكها رؤوف علوان و رجال الشرطة.
ب- المنظور الثاني: تقويم القوى الفاعلة
1- جرد القوى الفاعلة: القوى الفاعلة لا تنحصر في الشخصيات بل تشمل كذلك المؤسسات والأفكار والقيم والمشاعر، وكل ما يساهم في تحريك الأحداث، وبالعودة إلى رواية اللص والكلاب أمكننا جرد القوى الفاعلة كالتالي:
أ- الشخصيات: تنقسم شخصيات اللص والكلاب إلى رئيسية وثانوية وعابرة، سنحاول تقديم خصائصها ومواصفاتها بالاعتماد على الجدول الثالي بدء بالرئيسية وانتهاء بالعابرة.
الشخصيات المساعدة و المعادية الرئسة و التانوية
خصائصها وصفاتها
سعيد مهران
شاب مصري مثقف، تحمل مسؤولية أسرته منذ الصغر، توفي أبوه وبعده أمه، مؤمن بمبادئ المساواة والعدل والكرامة والإنصاف، مناصر للمظلومين والكادحين، ناضل من أجل تحقيق مبادئ الاشتراكية على الواقع، حريص على الانتقام من نبوية وعليش اللذان غدرا به وأدخلاه السجن، ومن رؤوف الذي تنكر لمبادئ الحزب والنضال، يعاني من فراغ روحي وقلق وجودي وغربة وضياع، أسير الحقد والكره والانتقام. رمز للكادحين والفقراء المناضلين من أجل القيم.
رؤوف علوان
طالب قروي، مناضل مؤمن بالتغير، له قدرة على التأثير بأسلوبه في محاوريه، أكمل دراسته ثم تحول إلى صحفي ناجح، انتهز الظروف السياسية الجديدة فتحول إلى قلم برجوازي مأجور، تنكر لأصوله الكادحة، ولطبقته، متطلع بشغف لحياة الارستقراطية، أكلا وملبسا ومسكنا، يشوه الحقائق ويكلب الرأي العام ضد سعيد ويصوره مجرما خطيرا. رمز للبرجوازية القاسية على الفقراء.
عليش
غريم سعيد مهران – المستفيد من سجنه والمستولي على زوجته وابنته وجميع ممتلكاته – متحايل كبير – انتهازي خائف على مصيره الشخصي ومتخذ لجميع الاحتياطات حتى لا ينال منه خصمه سعيد مهران. رمز لخيانة الصداقة.
الشيخ علي الجنيدي
زاهد متصوف، له انشغالات روحية بعيدة عن الواقع المعيش، يحاول تبرير الواقع بالغيبيات لأنه مستفيد من الوضع السياسي السائد – يشكل نوعا من الاطمئنان النفسي والروحي لسعيد مهران – يلجأ إليه دائما وقت الشدة . رمز للتصوف والفكر الديني.
نـــــــــور
عنصر مساعد للشخصية الرئيسة سعيد مهران – مومس – قست عليها الحياة الاجتماعية – متوسطة الجمال – مستسلمة لرغبات الزبناء – مغرمة بسعيد مهران وترغب في زواجه – وفرت له الطعام والمسكن والجرائد والسيارة . رمز للإباحية والقيم المفقودة.
المعلم طرزان
صاحب مقهى – صديق سعيد، وفر له المسدس وأمده بمعلومات هامة ساعدته على الاختفاء عن أنظار الشرطة.رمز للصداقة الصادقة.
نبوية
زوجة سعيد السابقة، وأم سناء أحبها سعيد بصدق وظل يحلم بالاستقرار الدائم إلى جوارها مع ابنته سناء بعد خروجه من السجن، لكنها تنكرت له وارتبطت بعليش. رمز للخيانة الزوجية.
سناء
موضوع صراع بين الأب الطبيعي سعيد مهران و زوج الأم والمحتضن عليش، لم تتعرف على أبيها، تبدو خائفة مضطربة أثناء اللقاء الذي جمعها بابيها الحقيقي سعيد مهران. رمز للبراءة المغتصبة.
المعلم بياضة
زميل سابق لسعيد وصديق وشريك عليش، خان صديقه الأول، وكاد أن يؤدي ثمن هذه الخيانة أثناء لقائه بسعيد مهران الباحث عن المكان الجديد الذي استقر به عليش.
ب - المؤسسات:
السجن: أول مكان يؤطر فضاء الرواية، فأثناء تواجد سعيد في السجن تزوجت نبوية بعليش و تحققت أهداف الانتهازيين و الخونة (عامل معاكس).
الصحافة: أثرت في جهاز الشرطة و الرأي العام من خلال مقالات رؤوف علوان (عامل معاكس).
الجامعة: شكلت لسعيد وعي شقي و لرؤوف مصدر وعي مثمر.
- الفضاءات
يمكننا التمييز بين هده الفضاءات أو المواقع إلى معاكسة أو مساعدة.
ميدان القلعة: الحي الذي كان يقطنه سعيد، منه دبرت مؤامرة سجنه و إليه عاد للانتقام، و هو مسرح أول جريمة يقترفها سعيد كان ضحيتها شخصيــة عارضــــة
شعبان حسين الذي لا علاقة له بالصراع.
بيت رؤوف: مسرح الجريمة الثانية الفاشلة، شاهد على تغير القيم و المبادئ.
بيت نور: مكن سعيد من الاختباء و متابعة التطورات عن بعد، أحس فيه سعيد بالأمان، لكنه تحول إلى مصدر تهديد له بعد غياب نور المفاجئ.
طريق الجبل: مأوى سعيد يلجأ إليه كلما ضاقت به السبل.
المقهى: تمثل السند و الحماية لسعيد .
المقبرة: النهاية الحتمية لأخطاء سعيد الطائشة بعد ما حوصر فيها.
ج- الجمادات :
جريدة "أبي الهول": مكنت سعيد من معرفة فشل خطته الانتقامية و تأسفه على قتل الرجل البريئ شعبان حسين، مما جعل رؤوف يتخذ هذا الحدث فرصة مناسبة
لتحريض الرأي العام.
البذلة التنكرية: إخفاق سعيد في استعادتها من بيت نور، مكن الكلاب البوليسية من الإيقاع به عن طريق التوجه إليه حيث يوجد.
القارب: اتخذه وسيلة للوصول إلى بيت رؤوف لتنفيذ مخططه الانتقامي، كما مكنه من الهرب من مسرح الجريمة.
ه- الوقائع:
تتجسد في المحاولات الانتقامية التي باشرها سعيد بعد خروجه من السجن، فالبداية كانت برؤوف علوان الذي أحبط محاولته، ليشرع بعد ذلك في محاولة مدروسة لكن الفشل كان حليفه مرة أخرى، و جدد عملية انتقامية صوب رؤوف علوان لكنها فشلت بفعل التسرع، فضيق الخناق على سعيد فح
المؤسسات و الجماعات
أ- المؤسسة الرسمية: و يمثلها رجال الأمن و الصحافي رؤوف علوان و المخبر حسب الله، و تقوم بمطاردة المعارضين و الدفاع عن النظام.
ب- الجماعة الدينية: و يمثلها الشيخ علي الجنيدي و المريدون و التي حافظت على قيمها و تواجه صعوبات الحياة من خلال التطهير الروحي.
ج- الجماعة الشعبية و الهامشية: و يمثلها سعيد مهران، عليش سدرة و المعلم طرزان و أتباعه ثم نور و تمثل أيضا فئة اجتماعية هامشية تمارس أشكال متعددة غير مشروعة لضمان الحياة.
هكذا نجد أن الرواية تضعنا أمام وضع اجتماعي منحرف إذ نجد: الجريمة- السرقة- القتل- تجارة السلاح وما ينجم عنه من ضحايا أبرياء- الفقر- التهميش- الدعارة- الانحلال الخلقي- فساد القيم- الصفقات غير المشروعة- الغش و الاحتيال...
وصر في المقبرة من كل الجوانب فكانت نهايته.
د- القيم والمشاعر:
تتنوع هذه القيم والمشاعر بين القناعة والاستسلام للأمر الواقع ويمثلها علي الجنيدي، والانحراف والخروج عن القوانين، ويتجسد ذلك في شخصية المومس نور والمتاجرين في الممنوعات من ذوي السوابق كطرزان وغيره، ثم الرغبة في الغنى والثراء على حساب القيم الأصلية والانتماء الطبقي، ويبرز ذلك جليا في التسلط الطبقي لرؤوف علوان، في مقابل الالتزام الإيديولوجي والإيمان الصادق بالعنف الثوري المجسد في شخصية سعيد مهران، أما عليش فيمثل أعلى درجات الشخصية الانتهازية التي لم تكتف بسرقة أموال الصديق بل ا استولت على زوجته وابنته وكل ممتلكاته، مما جعل مسألة الانتقام منه ونبوية تحتل مركز الاهتمام لدى سعيد مهران.
ولعل أهم الشخصيات التي عاشت عدة مشاعر متناقصة ومتضاربة وجارفة هي شخصية سعيد مهران، لأنه عاش خيانة مزدوجة، الأولى اجتماعية من زوجته وصديقه عليش، والثانية إيديولوجية ثقافية من طرف أستاذه وموجهه رؤوف علوان، مما جعله يحس بالمهانة والخزي والعار أمام أسرته وأصدقائه وذاته، فقرر الانتقام من جميع الخونة.
وهكذا يظل جرد القوى الفاعلة – شخصية كانت أو مؤسسات أو جمادات أو حيوانات أو قيما ومشاعر – الحاملة لحركة الفعل التي تمارسها الشخصيات في الرواية أساسية ومهمة في التحليل، لأنها تساهم بطريقة ما من الطرق في الحدث.
ج الكشف عن البعد النفسي:
إن قراءتنا لرواية اللص والكلاب من المنظور النفسي، تنتهي بنا إلى إدراك ما تخفيه الشخصيات من مشاعر وأحاسيس وعواطف متوترة، نستنتج منها عمق الأزمة الإنسانية النفسية التي يعاني منها المجتمع المصري والعربي في خمسينيات وستينيات القرن20، الذي قدر عليه أن يعيش في زمن غريب لا يأنس له ولا يشعر معه بالاطمئنان ، إن مؤلف اللص والكلاب بهذا المعنى رواية واقعية نقدية رمزية تكشف عن الحالة النفسية للمجتمع من خلال التعمق في شخصية سعيد مهران الذي تعرض لخيانات اجتماعية وسياسية خلقت منه نموذجا بشريا دائم القلق والحيرة ، فمن يكون سعيد مهران نفسيا؟ وما علاقته بالإنسان العربي؟
لقد قدمت رواية اللص والكلاب شخصية سعيد مهران ذلك الشاب الفقير الذي تعرض لأنواع من الحرمان والقهر بمواصفات نفسية جعلت منه نموذجا إنسانيا عربيا يعاني من توتر نفسي وعاطفي وقلق وغربة سواء تجاه من خانوه' نبوية، عليش، رؤوف' أو أحبوه' نور، طرزان، فئة الفقراء' أو إزاء الزمن الماضي والحاضر والمستقبل،فعن طريق استرجاع شريط الألم ' وفاة والده، أمه، خيانة الزوجة الصديق، الأستاذ،' نفهم سر جنون سعيد مهران، فجنونه أزمة نفسية ولدها الإنسان الذي خان شعبه وتنكر للمبادئ، وأزمة ولدها الصديق الذي خان الصداقة، وولدتها الزوجة التي نسيت الوفاء...، لذلك لا غرابة أن يعيش سعيد مهران فراغا عاطفيا، وروحانيا، وغربة، وضياعا، وقلقا، وتوترا، وهذه صورة مصغرة لأسر كثيرة تشارك سعيد هذه المعاناة سواء كان تواجدها داخل أم خارج المؤلف.
وهي أزمة نفسية ألقت بثقلها على العلاقات العاطفية بين الأفراد، بحيث أصبحت أكثر مأساوية، فعلاقات الحب التي يمثلها في المؤلف حب سعيد لابنته وحب نور لسعيد، تتراجع لتفسح المجال للكراهية والحقد، فتكون النتيجة قتل ومطاردة ورغبة في الانتقام، كما أن علاقة الوفاء التي يجسدها في المؤلف وفاء طرزان و نور لسعيد ، قد تراجعت بدورها لتحل محلها الخيانة بأبعادها الاجتماعية والسياسية. بل حتى العلاقة الروحانية بين الإنسان وربه تأثرت في وسط هذا المجتمع المادي ودليل ذلك علاقة سعيد برباط علي الجنيدي.
هكذا يبدو العالم النفسي كئيبا وما يزيد من كآبته حضور تيمات الظلم والكره والخيانة، خيانة وظلم وكره أقرب وأعز الناس إليك أو من كان من المفروض أن يحبوا، وتيمة الحب كذلك لكن بوجه جديد يسبب لصاحبه الأحزان أكثر من الأفراح، حب سعيد لسناء الجريح، وحب نور لسعيد الذي فات زمنه.
هكذا يبدو واضحا بأن نجيب محفوظ قد تعمد التركيز على نفسية بطل هذه الرواية لغاية كشف التحولات الصعبة التي يعيشها الإنسان المصري والعربي وتداعياتها على نفسية الفرد خاصة الفقير الكادح.
أ- الإحساس بالكراهية: بعد خروج سعيد مهران من السجن كان الإحساس الطاغي لديه هو الكراهية، و هي نتيجة رد فعل طبيعي اتجاه فعل الخيانة التي قادته إلى التفكير في الانتقام و الحقد، يكره الخونة و الخيانة المتمثلة في عليش سدرة و رؤوف علوان و نبوية، هذه الأخيرة التي جعلت كل امرأة بالنسبة إليه نبوية الخائنة، فرغم محاولات و تنبيهات الشيخ على الجنيدي و المعلم طرزان و نور أصر على الانتقام من الخونة.
ب- الإحساس بالمحبة: و هذا الإحساس يتمظهر في محبة سعيد لابنته سناء، التي استحوذت على فكره و قلبه، ثم نور التي جعلته متوترا بعد غيابها المفاجئ أضف إلى ذلك محبته للشيخ علي الجنيدي و المعلم طرزان.
ج- الإحساس بالندم: هذا الإحساس تولد من خلال الفشل في قتل الخونة، و إصابة بريئين لا علاقة لهما بالصراع، لذلك كان يحاكم نفسه و يزداد اختناقا على الخونة الذين يحملهم موت الأبرياء.
د- الإحساس بالاضطراب: راهن سعيد مهران في مخططه الانتقامي على مهاراته و قدرته التي يتميز بها عن غيره من اللصوص، غير أن الوقوع تحث تأثير الاضطراب النفسي أفقده كل المهارات التي كان يعتد بها سابقا، فما سبب هذا الاضطراب النفسي الذي عانى منه سعيد مهران؟
ترجع أسباب هذا الاضطراب النفسي إلى الفراغ المهول الذي وقع فيه مباشرة بعد خروجه من السجن، فهناك الفراغ العاطفي المتجسد في الإخفاق في استرجاع ابنته من الخونة، موت أمه و أبيه و غياب نور التي اختفت عن أنظاره، ثم الفراغ الروحي الذي يظهر بجلاء في حوارات سعيد مع الشيخ علي الجنيدي حيث كان الشيخ يصر على هدايته لكن بدون جدوى، ثم هناك الفراغ الفكري المتمثل في تغييب العقل، نسيان البذلة، و عدم القدرة على استرجاعها، إهمال الكتب ، الانسياق وراء الانتقام و التفكير في الخيانة وهذا الفراغ الفكري يجعل سعيد يتصرف كالمجنون.
من خلال ما سبق نجد أن الرواية تكشف عن التيمات النفسية لشخصية سعيد مهران في علاقته بباقي الشخصيات الأخرى فهناك: الكراهية، الحب، الندم، الاضطراب، الغضب، التوتر، الحقد، الانفعال، الوحدة، الخوف، التوجس، التحدي، الغدر، البغضاء، الحزن، الإحباط...
د المنظور الاجتماعي:
اشتهر نجيب محفوظ في مجمل رواياته، بتصوير الواقع المصري الاجتماعي تصويرا تظهر من خلاله الصورة الحقيقية للبنية الاجتماعية المصرية، كما تبدو من خلاله معاناة الإنسان المصري الاجتماعية، فما هي طبيعة المجتمع الذي تتحدث عنه رواية اللص والكلاب؟
تصور رواية اللص والكلاب واقعيا اجتماعيا متناقضا أفرزته التحولات السياسية في خمسينيات القرن20 تختصره فئتان، فئة الأغنياء التي يمثلها رؤوف علوان والتي تمتلك كل شيء، وفئة الفقراء التي يمثلها سعيد مهران والتي تفتقر لأبسط متطلبات العيش الكريم، وهو تناقض اجتماعي سيؤدي إلى ظهور أمراض اجتماعية خطيرة، كالسرقة التي اعتبرها سعيد مهران وسيلة لإعادة حق الفقراء، فمن السارق ومن المسروق؟، والمتاجرة في المخدرات والذي يمارس ذلك هو المعلم طرزان، ناهيك عن الدعارة التي تمارسها نور، ولا تتوقف تداعيات هذا التناقض في ظهور أمراض اجتماعية فقط، بل في ممارسات أخرى أكتر تعقيدا كالخيانة والنفاق والانتهازية التي ذهب ضحيتها سعيد مهران.
هكذا يبدو واضحا أن رواية اللص والكلاب رواية نقدية تنتقد وبشدة الواقع الاجتماعي الذي أفرزته الثورة والذي عمق من معاناة الطبقة الفقيرة وزاد من همومها إلى درجة أن أسرا كثيرة قد تفككت علاقاتها نتيجة الفقر والحاجة، واضطرت إلى بيع شرفها ومبادئها أو النضال من أجل تحققها إلى آخر أنفاس الحياة، فمن يتحمل مسؤولية هذا الواقع الجديد؟
ه- منظور البعد الأسلوبي: يتميز أسلوب نجيب محفوظ في رواية اللص والكلاب بالاقتراب من لغة البساطة والوضوح والدقة في الوصف دونما اهتمام بالمحسنات البديعية، مراعاة للغة العصر التي تأثرت بلغة الصحافة والطباعة وبالمثاقفة، كما تقترب من لغة الحياة اليومية من خلال اعتماد لغة حية لها علاقة بالشارع المصري، بهذا يؤسس نجيب محفوظ لتجربة جديدة تمزج بين اللغة العربية الفصحى واللغة العامية في محاولة لصبر أغوار الإنسان العربي وكشف همومه النفسية والاجتماعية، كما تتميز لغة الرواية بتداخل خيوط السرد، الذي يتداخل فيه صوت الكاتب بصوت السارد والشخصية، الشيء الذي يؤكد بأن الكاتب قد سرد الأحداث بالاعتماد على وضعيات سردية متعددة، من أجل الإحاطة بهموم الشخصية من كل جوانبها، كما تتميز اللغة كذلك باعتماد حقول معجمية كثيرة ' حقل الحرية، حقل الموت، حقل الدين، حقل الجسد، حقل السجن، ....' وباعتماد لغة الوصف ' وصف الشخصيات، الأماكن..' واعتماد الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي .
6- البناء الفني:
بني نجيب محفوظ روايته بناء محكما معتمدا في ذلك على الوضعية الأولية ثم سيرورة التحول و تطوراته و انتهاء بوضعية نهائية تجسد الرهان الذي سطره المؤلف و الذي يكمن في كون الحل الفردي لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مرضية، أضف إلى ذلك أن الرصاصات العمياء التي تعبر عن الرفض و الإدانة ينقضها التنظيم و الوعي. هذا و قد اعتمد المؤلف في نقل تفاصيل رواية «اللص و الكلاب»على الرؤية من الخلف من خلال النفاذ إلى بواطن الشخصيات و الكشف عن أحاسيسها و تطلعاتها.
- الزمن السردي: وقد جاء الزمن في الرواية زمنا تصاعديا يبتدئ بالخروج من السجن إلى المطاردة و الاستسلام غير أن هذا الزمـــن يجنح ثارة إلى الماضــي
لاسترجاعه أو للمستقبل من أجل استشرافه.
- الأسلوب: وظف نجيب محفوظ في روايته عدة أساليب سردية لنقل الأحداث و التعبير عن مواقف الشخصيات من ذلك:
***9642; السرد المباشر: وقد تم توظيفه للاقتراب من الواقع قصد محاكاته و تسجيله و تشخيصه.
***9642; السرد غير المباشر: الذي يمتزج فيه كلام السارد مع كلام الشخصية و هو كثير بين ثنايا الرواية.
***9642; الحوار: نميز فيه بين نوعيـن؛ حوار داخلي و حوار خارجي غير أن النوع المهيمن في الروايــة هو الحوار الداخـــــلي الذي يكشــــف
القراءة التركيبية:
لقد بات واضحا أن رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، رواية واقعية نقدية تشخص بعمق مشاكل الفرد في مجتمع تلاشت فيه القيم النبيلة، وساده الظلم والفساد. هذه الرؤية المأساوية التي يعبر عنها نجيب محفوظ في هذه الرواية، تستخلص من خلال مسار البطل الفردي. ولاشك أن الإصغاء لمشاكله ولمعاناته مع الذين خانوه، يعكس بالملموس أزمته الداخلية، وهي أزمة تخلع عليه سمة البطل الإشكالي، الذي يطمح إلى غرس القيم الجميلة في مجتمع يفتقد لكل مظاهر القيم والمبادئ، وهذا ما يفسر تركيز الرواية على شخصية البطل في حين تحضر الشخصيات الأخرى في علاقاتها بشخصية البطل
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-