من مخاطر ترقيع الكتب المدرسية في الامارات
بقلم : أسامة فوزي
نشر في جريدة الخليج عام 1983
من بين مخاطر التعديل أو " الترقيع " فى الكتب المدرسية ، تضارب الإنجاهات القيميّة المبثوثة فى الكتب من قبل المؤلفين الأصليين ؛ وما يبنى عليها من نتائج ، مع الإتجاهات القيمية الجديدة للمعدّلين ؛ التى غالباً ما تبث فى أجزاء فقط من الكتاب ــ فى المقدمة مثلاً ــ دون أن تطال النتائج أو ( التطبيقات ) أو ( الشواهد ) لذا تحرص إدارات المناهج فى العالم العربى على تكليف واحد على الأقل من المؤلفين الأصليين ، بالمشاركة فى أى تعديل على الكتاب ؛ حتى تظل المادة منسجمة ومحافظة على ترابطها وتسلسلها وبنائها الهرمى ( القيمى ).
لنأخذ كتاب ( الأدب والنصوص والبلاغة ) للصف الأوّل الثانوى كنموذج تطبيقى لمخدورات التعديل أو التوقيع التى لا تأخذ الإتجاهات القيمية الأصلية للمؤلفين الأصليين بعين الإعتبار ، والكتاب ــ فى أصله ــ من إصدار إدارة المناهج الكويتية ، وظل مقرراً على الطلاب فى الإمارات بتعديل الكتاب وإصداره فى ( طبعة تاسعة ) وتوزيعه على المدارس ، وكان الكتاب قد عُدّل أكثر من مرّة ــ فى الكويت ــ لكن لمسات المؤلفين الأصليين ظلت موجودة فيه لأنّ التعديل تم بإشرافهم ، حيث عدّل عبد الحميد البسيونى ــ وهو من المؤلفين الأصليين ــ الطبعة الثانية ، وإنضم إليه عبد العليم عيسى ــ وهو من المؤلفين الأصليين أيضاً ــ فى تعديل الطبعة الرابعة أمّا الطبعة التى بين يدى الطلاب فى الإمارات فهى من تعديل أربعة موجهين من بينهم الموجه الأوّل.
لقد ضمت مقدّمة المؤلفين الأصليين خطتهم فى الكتاب ، بينما تضمنت مقدمة كل فصل فيه الإتجاهات القيمية المرادة وقد غطى الكتاب ثلاثة عصور أدبية هى العصر الجاهلى وصدر الإسلام والعصر الأموى ، وذكر المؤلفون إنهم توخّوا فى إختيار النصوص من الشعر والنثر أموراً أربعة أولها أن تكون على ما رسم المنهج ؛ ممثلة للعصرــ ما أمكن التمثيل ــ من الناحية الإجتماعية والسياسية وثانيها : أن تكون حاملة للمثل العربى الأعلى الذى يسمو بنفس الطالب إلى قمة عُليا من عزّة العرب وأبائهم وإعتزازهم بأنفسهم وبلادهم.
على ضوء هذا الهدف العام والخاص الذى رسمه المنهج ، وضع المؤلفون الكويتيون مقدّمة للعصر الجاهلى ، عرضوا فيها للبيئة الطبيعية والإجتماعية والسياسية لجزيرة العرب ، فتحدثوا عن سكان الجزيرة من أهل الحضر مثل أهل اليمن فى الجنوب وإمارة المناذرة فى الحيرة والغسانةفى الشام ثم قريش التى كانت العرب كلها تدين لها وشرح الكتاب بعض العادات والتقاليد الدارجة آنذاك والتى سيجدها الطالب مذكورة فى أشعارهم مثل رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام ، والحج وسوق عكاظ و(الأثافى ) والطلل والرسم
وتحدث الكتاب عن طائفة أُخرى هى طائفة سكان الصحارى من الإعراب ، ثم طائفة البدو أو سكان البادية ، وأطنب فى شرح نظام القبيلة بصفته ( الوحدة الإجتماعية ) آنذاك وفى باب الحياة الدينية فى الجزيرة عرض الكتاب لكل المعتقدات والأديان التى سادت ومنها عبادة الأصنام ، والنجوم ، والنار ولكن الكتاب يؤكد بالنص إنهم " مع ذلك كانوا يعرفون الإله الخالق ، ويجعلون هذه الأصنام وسيلة إليه لذا فإنّ وثنيتهم ليست وثنيّة معقّدة كوثنية غيرهم من الأمم كاليونان مثلاً " ويورد المؤلفون فى الهامش آية كريمة من سورة الزخرف لبيان هذه الحقيقة " ولئن سئلتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم " ويختم المؤلفون مقدمتهم تلك بكلمة عن الحياة المدنية والعقلية فى الجزيرة ويقولون بالنص " ليست من العدل أو الصواب فى شىء أن يُعمم القول فى عرب الجاهلية جميعاً وأن يحكم عليهم جميعاً حكماً عاماً مطلقاً بأنهم مجموعة من البدائيين ".
ويؤكد الكتاب الكويتى أنّ للعرب حضارات موغلة فى القدم كعاد وثمود ــ كما ورد فى القرآن الكريم ــ إلى جانب أنهم إتصلوا بالحضارات الأُخرى المجاورة لهم من فارسية وروبية ومصرية وأخذوا عنها ويختتم المؤلفون مقدمتهم بالقول : " فليس من الصواب شىء تلك الصورة الهزيلة السائدة أنّ عرب الجاهلية جميعاً كانوا بدائيين منفصلين إنفصالاً كلياً عن غيرهم من الأمم وإذا صح هذا القول فإنما يصح فقط على بعض الأعراب الذين كانوا فى جوف الصحراء لا يكادون يخرجون منها ".
ولتأكيد هذه الصورة الموجزة والمعتدلة عن العرب قبل الإسلام ، إختار المؤلفون نماذج مشرقة من الشعر والنثر تعكس قيم الفضيلة والفروسية والشهامة والكرم والغزل العفيف والصدق فعن الفروسية قدموا قصيدة وصف سباق للخنساء وعن الحس القومى المبكر قدموا قصيدة للأعشى فى ذكر وتمجيد يوم ذى كار الذى إنتصرت فيه بكر على الفرس وعن قيم الشجاعة قدموا قصيدة لفارس بنى عبس ( عنترة ) وعن صبرهم وغزالهم وشجاعتهم فى الحروب نقرأ قصيدة لعمرو بن معد يكرب وفى النثر الجاهلى إختار المؤلفون وصية إمامة بنت الحارث لإبنتها عند زواجها وهكذا
بكلمة أُخرى ، قدّم لنا المؤلفون الكويتيون ترجمة لأبرز الخصال الجيدة التى عُرف بها العرب قبل الإسلام ، وأغفلوا السيىء منها مثل وأد البنات ، والخمر ، ولعب القمار الخ ، وفعل المؤلفون الكويتيون ذلك تحقيقاً لما رسمه المنهج لهم من أن تكون النصوص المختارة ــ ومقدّماتها ــ " حاملة للمثل العربى الأعلى الذى يسمو بنفس الطالب إلى قمة عُليا من عزّة العرب وإبائهم وإعتزازهم بأنفسهم وبلادهم " ، وهذا مطلب ينبعنى بمنهج اللغة العربية تحقيقه كما بيّنت فى مقالة سابقة.
فى الكتاب الجديد ( المعدل محلياً ) أُ عيدت الصياغة والإتجاهات القيمية للمقدمة ولم يعد غرض المقدمة أن " تكون حاملة للمثل العربى الأعلى الذى يسمو بنفس الطالب إلى قمة عليا من عزّة العرب وإبائهم وإعتزازهم بأنفسهم وبلادهم " كما أراد المؤلفون الكويتيون وإنما أصبح غرضها عرض " مظاهر الفساد التى سادت حياة العرب قبل الإسلام " ــ كما ورد فى التعديل ــ وجاء عرض المعدّلين مخالفاً لما كانت عليه المقدمة الأولى تماماً ، حتى إنها تبدو فى بعض جوانبها وكأنها مقالة فى الرد على مقدمة الكتاب السابق ، حيث نقرأ مثلاً أنّ جزيرة العرب " كانت تعبح بركام هائل من التصوّرات والعقائد الغاصدة جعل أهلها يتخبطون فى وثنية سخيفة قلما يوجد لها نظير فى الأمم الأُخرى " بينما كانت المقدمة السابقة تقول " كانت أكثر القبائل فى الصحراء وثنية ولكنهم مع ذلك كانوا يعرفون الإله الخالق وإنما يجعلون هذه الأصنام وسيلة إليه فهى ليست وثنية معقدة كوثنية غيرهم من الأمم كاليونان مثلاً ".
وتستعرض المقدمة الجديدة حالة العرب بلغة هجومية ، حيث تتحدث عن ( الخطاط ) عباداتهم و" إنهم لسخفهم وتفاهة تفكيرهم كانوا يزعمون أن ربهم يشتو عند الخ "
ويقوا الكتاب " ومصيبة هؤلاء الجاهلين أن روح العصبية كانت تحول بينهم وبين مجرّد التفكير فى حقيقة ما يفعلون الخ " و " قد أنكر هؤلاء المشركون جميعاً دعوة الرسل " " بل إن عقيدة التوحيد الخالص هى أشد الأفكار غرابة عندهم " ويخلص المعدّلون إلى أنّ " فساد التصوّر والإعتقاد إنعكس بصورة واضحة على حياة العرب وأخلاقهم ومن ثم فقد أباحوا لأنفسهم أن يرسموا قانونهم الأخلاقى ودوستورهم المعيشى على أساس هذا التصوّر " ويفصّل المعدّلون هذا الفساد إلى الدرجة التى يتحول معها الكرم ( إلى تبذير وإسراف وكبرياء فى الجود ) وتصبح الفروسية ( تهوراً وطيشاً وظلماً للآخرين ) ويقولون " إنّ التصدّع فى كيان القبيلة أو ردها مهاوى الرذيلة " وإنهم " شاع بينهم الزنا والإنحطاط الخلقى وأنّ مراجعة لشعر الجاهليين تدل على مدى ما وصل إليه المجتمع من الإنحلال والتدنى فى الرذائل " أمّا المرأة " فقد عدّها الجاهليون من سقط المتاع فلم يرعوا لها حقاً ولا كرامة وكانت تكره على الزواج الخ "وفى المقدمة حديث عن فساد الحياة السياسية أيضاً حيث " إنتشر الحقد بين العرب حتى إستعانوا بالآخرين لينصروهم على أبناء جلدتهم " و " كان العرب أيام الدولة الحميرية أصحاب حضارة ولكنها إضمحلت مع الأيام " و" لم يكن عندهم حضارة ذات معالم بينة "
وينهى المؤلفون الجدد مقدمتهم بالقول : " هذه صورة المجتمع العربى فى العصر الجاهلى وعلى ضوء ما عرضناه عليك يا بنى من فساد تستطيع أن تدرك عظمة هذا الدين وفضله على العرب".
بمعنى أن هدف المؤلفين الجدد لم يكن " السمو بنفس الطالب من خلال الإعتزاز بالعرب " كما كان وارداً فى الكتاب الكويتى وإنما هو فهم نقل صورة عن الفساد فى الحياة الدينية والسياسية والإجتماعية حتى يرى التلميذ حجم التغيرات التى طرأت على المجتمع مع الرسالة المحمدية.
لسنا فى معرض مناقشة هذا الطرح ، ولكننا نريد فقط أن نشير إلى أنّ المقدّمة الجديدة ؛ كان يجب أن تتبعها إختيارات مساندة من النصوص الأدبيّة ، غير تلك الموجودة والتى وضعها الكويتيون أو إختاروها لتؤكد تصوّرهم المختلف المشار إليه سابقاً ، ومن هنا نشأ الخلل ، ووقع التلميذ فى حيرة من تضارب الإتجاهات القيمية المنصوص عليها فى المقدمة الجديدة وما يستخلصه التلميذ من إتجاهات وقيم مثبوتة فى النصوص المختارة.
وعلى ضوء ذلك سيقرأ التلميذ فى المقدمة أنّ " الفروسية والشجاعة أصبحت عندهم قهوراً وطيشاً وظلماً للآخرين بينما يقرأ التلميذ قصيدة للشاعر الفارس عنترة بن شداد والشاعر الفارس عمرو بن معد بن يكرب ، يصفان يصفان فيها الفروسية الحقة ، وجلدهم على القتال وحبرهما عليه.
ويقرأ التلميذ فى المقدمة عن الخطاط المجتمع وشيوع الزنافية وإحتقار المرأة ، بينما النص المختار للدارسة يتحدث عن وصية إمامة بنت الحارث لإبنتها عند زواجها وكيف تحثها على الإخلاص لزوجها وطاعته والمحافظة على بيتها ومال زوجها وأسراره.
ويقرأ التلميذ فى المقدمة عن إنتشار الحقد بين العرب " حتى إستعانوا بالآخرين لينصروهم على أبناء جلدتهم " بينما نقرأ قصيدة للأعشى فى ذكر وتمجيد يوم ذى كار وهى المعركة التى توّحد فيها العرب ، فى مواجهة الفرس ، حين هجمت بكر على جيش فارس ، وعاونتها ( إياد ) بتخطيط مسبق.
لا بل أنّ الفصل الذى بقى على حاله بعنوان " خصائص الأدب الجاهلى " ينسف مقدّمة المعدّلين ويوقع التلميذ فى حيرة وإرتباك لأنه سيجد نفسه أمام أحكام وقيم متناقضة تماماً ، حول ظواهر واحدة محدّدة ، وردت فى الكتاب نفسه حبث نجد ــ مثلاً ــ تصنيفاً لشعر الحماسة " ومنه لون يمتدح الشاعر فيه نفسه وقبيلته ويفخر بعراقة أصله وما يتحلى به من الفروسية والإقدام والعفة والكرم والوفاء والنجدة وغيرها من الأخلاق العربية الأصيلة " ــ وهى الأخلاق التى نفاها التعديل كما رأينا !!وفى الفصل المذكور إشارة إلى موضوع الغزل الذى " يتعلق بنزعة إنسانية " و" ندر ما تجد منه الفاحش المتبذل بينما تؤكد مقدمة المعدّلين أن الغزل الفاحش كان متغشياً لا بل أن الفصل المذكور يصف نظرة العرب بأنها " نظرة واقعية فى النظر والسلوك " وفيه إشارة إلى " نظرتهم الصافية الصادقة إلى الحياة والأحياء من حولهم " وهو يناقض ما ذكر فى مقدّمة المعدّلين من فساد نظرة العرب إلى الحياة الخ
نحن إذن حيال كتاب مدرسى واحد وقيم متناقضة ، لمجموعة متباينة من المؤلفين والمعدّلين ، وتكاد تكون المقدّمة المعدّلة بحثاً منفصلاً عن جسم الكتاب ، أو نشازاً فى البناء الهرمى ، الحلزونى الذى أراده المؤلفون الكويتيون ، وبهذا التعديل أو الترقيع لم نخرج إلاّ بكتاب هجين ، لا ينتمى بشكل واضح ومحدد إلى السياسة التربوية فى دولة الإمارات ولا يحافظ على خصائصه التربوية التى أرادها المؤلفون فى الكويت.
إذا كان المؤلفون فى الإمارات يصرّون على رؤيتهم التى ضمّنوها مقدّمة الكتاب فالأولى إذن أن يبحثوا عن تطبيقات شعرية ونثرية تترجم هذه الرؤية ، أو تعكسها ، حتى لا يشعر الطالب بانفصام فى شخصية الكتاب ، ولغته ومفاهيم فصوله المختلفة ومع إننى ــ كتربوى ضد عمليات التعديل أو الترقيع فى المناهج الاّ أنه لا بأس من إختيار أهداف الشرين ، والقبول بالأمر الواقع ، شريطة أن يمتد الترقيع إلى جميع الفصول حتى تكون هناك لغة واحدة مشتركة بين الطالب وما تتضمنه الكتب.