أخر الاخبار

ثقافة الوعي بحماية البيئة وعدم استنزاف البيئة

 

       نهى الإسلام عن الإسراف في استغلال مكونات البيئة وتعطيلها، كما نهى عن الصيد في مواسم الحج والعمرة وخلال مواسم تكاثر الحيوانات. وعندما نستذكر الحديث الشريف: "أطفئوا المصابيح إذا رقدتم وأغلقوا الأبواب وأوكوا الأسقية....". ألا يشير ذلك بوضوح للدعوة إلى ترشيد استهلاك الطاقة والمياه؟
       وقوله تعالى: )   كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين((3)، )ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين،....((4)، ألا نجد في هاتين الآيتين دعوة إلى وقف الإسراف وترشيد استهلاك الموارد الطبيعية أيضاُ والتي هي أساسية للتنمية المستدامة؟
       ولكن يجدر بنا التنبه إلى أن تراثنا ابن عصره وربيب زمانه، فلم يتعامل التراث، يهودياً كان أو مسيحياً أو مسلماً أو غيره من ثقافات العالم المتنوعة، مع التلوث البيئي بالمعنى المعاصر له الذي نراه ونلمسه ونسمعه ونشمه ونتذوقه. كانت حاجة العربي آنذاك، في طبيعة صحراوية شحيحة المياه قليلة الأشجار، تستدعي أن يعمل الإنسان ما بوسعه للحفاظ على هذه الموارد الطبيعية الضرورية لحياته ولبناء الأجيال القادمة من بعده.
       وفي التراث المسيحي الغربي نجد القديس فرانسيس الأسيزي في القرن الثالث عشر يتحدث عن جمال الطبيعة والكائنات الحية فيها، ويتحدث عن محاولته التكلم مع الطيور والذئاب محاولاً تقريب الإنسان إلى بيئته التي تحيط به، ولكن الدارس لهذه المحاولات يجدها أيضاً بنت عصرها وربيبة زمانها، إذ أنها كانت محاولات لتقريب الإنسان من الله الذي خلق هذه الكائنات الحية وزودها بأسباب رزقها، فلم يكن التلوث حاضراً في ذهن ذلك القديس شأنه شأن أبناء عصره.
       لذلك، تستدعي مواجهة التلوث المعاصر أن نبدع ثقافة دينية جديدة لمواجهة التلوث الناجم عن المركبات والمصانع والحرائق، وقطع الغابات وغيرها من ممارسات لا أخلاقية يقوم بها الإنسان غير مكترث بعواقب تلويثه للطبيعة، وأثر ذلك على صحة أبنائه وأهله وجيرانه ومستقبل أمته ورفعتها وديمومتها.
       الثقافة المعاصرة ينبغي أن ترتقي كي تعالج هذا المد التدميري الهائل الذي يطال البيئة على نحو غير مسبوق في التاريخ، لذلك، وفي مواجهة الضرر العظيم بالبيئة، نطمح أن نجعل نظافة البيئة وترشيد استهلاكنا لمواردها المحدودة ثقافة عامة ومتصلة بين الأجيال، بحيث نبدأ من تقويم أنفسنا، من خلال الممارسات الصديقة للبيئة، كتوفير الطاقة في بيوتنا ومدارسنا وأماكن عملنا والامتناع عن إيذاء الطبيعة وحماية الطبيعة بنظامها البيئي المتكامل Ecosystem، ومن ثم ننطلق نحو نشر الثقافة البيئية العامة بين الناس.
فإذا قلنا أن الثقافة المعاصرة تستدعي أيضاً النقد الذاتي للأنا العربية، وذلك كي نفهم ذاتنا وسيرورتنا التاريخية ،ولكي نحصل على إجابات بشأن الأسباب التي تدفعنا إلى هذا التخريب الواعي أو غير الواعي للطبيعة، فنتساءَل: هل نمتلك الأدوات المعرفية لتحصيل ذلك الفهم؟ وإذا امتلكنا تلك الأدوات المعرفية، هل هامش الحرية يسمح لنا بنقد الذات والشك المنهجي، كما بدأ ديكارت في القرن السابع عشر معلناً ابتداء الحداثة الأوروبية؟
كما يمكننا التعلم من ثقافات الغير، ففي ثقافة الهنود الحمر في شمال أمريكا يقدمون التضحيات بإطلاق سراح الحيوانات لا بقتلها، ويعتقدون أن تشويه الطبيعة بمثابة جريمة بحق جسم أمهم الأرض.
وفي ديانة الشنتو اليابانية يُظن أن الآلهة تقطن في الغابات فإذا مسّ أحدهم شجرة عاقبته الآلهة على ذلك.  
وفي ثقافة أصحاب المذهب التاوي، نسبة إلى تاو Tao الفيلسوف الصيني الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، يسود الاعتقاد أن الإنسان الراقي يتجلى بفضائل الحب والصبر والكرم صوب عناصر الطبيعة الحية كافة. وفي الديانة البوذية تسود ثقافة فلسفة نبذ العنف التي تحترم صنوف الحياة كلها(5).
كذلك فإن الفلسفة الداروينية تربط أصولنا بالحياة البدائية، أي الخلايا البسيطة في البحار والمحيطات، وإلى مادة الكون المترامي الأطراف، فنحن إذا كنا داروينيين أيضاً نفهم أنفسنا بوصفنا جزءاً من هذا الكون وأنّ لدينا مسؤولية أخلاقية نحوه. فالفلسفات كلها تتفق على حماية هذا الكوكب والذود عن سلامته، باستثناء الفلسفات ذات النزعة العدمية.
هناك تنوع ثقافي وديني هائل في العالم اليوم، وما لم تستطع الأديان والمذاهب أن تقوم به للتوحيد بين الشعوب أو الأمم يبقى أمراً ملقى على عاتق الفلسفة لتتجاوز بالإنسان من رغبته في صون بيته وعائلته والدفاع عنهما؛ إلى اعتبار بلده كله جزءَاً لا يتجزأ من كيانه ولا تقل سلامته أهمية عن سلامة عائلته الصغيرة، وبعد تحقيق ذلك يشرع في التطلع كي يصبح العالم كله موطنه الذي يحبه ويدفع عنه الضرر.
واليوم يتطلع بعض علماء البيئة وفلاسفتها أن ننتقل من شعورنا بالواجب تجاه حدود الغلاف الجوي Ethosphere ليشمل الكون برمته Cosmosphere، فهل هذا مشروع ممكن في ضوء انقسام العالم إلى شمال وجنوب، غني وفقير؟ أنا أتساءَل هنا ولكنني لا أفقد الأمل!

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-